لا يكاد مسلم يعرف شيئا عن دينه في هذه الأيام إلا وأن يكون قد سمع عن الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها
في بيان معنى التجديد نجد اختلافا بين العلماء والمفكرين ممن اشتغلوا بأمر هذا الحديث، ولكن إذا أمعنت في الأمر تجد أنهم غالبا ما يتحدثون عن إحياء العمل والأمر بالكتاب والسنة أو أنهم يتحدثون عن اصدار اجتهادات أصولية وفقهية ليواكب الدين حركة العصر الحديث والمتطلبات المستجدة للمسلمين الناشئة عن تغير نمط العيش وظهور أمور لم تكن متواجدة في عهد المتقدمين أو المتأخرين من الأئمة والعلماء. فالمجدد هنا يكون عالما بالكتاب والسنة وفقيها وأصوليا يستطيع الموازنة بين الأمور ويأتي بالجديد من الاجتهاد المبني على قواعد سليمة كي يفي بأمانة العلم ويؤكد مرة أخرى أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان
لكننا إذا توقفنا للحظة وتأملنا في ما يحدث في عصرنا الحالي، لوجدنا أن التجديد لا يكون بداية بالبحث في أمور الأصول والفقه، فإذا استقرءنا السائد على فكر الناس حاليا من مغالطات وجدل حول الأمور الفقهية والطلب الملح على تجديد الفقه ليواكب الواقع المتغير إنما هو رداء سطحي يغطي على مشكلة أعمق تعود إلى نظرة خاطئة للحياة يعود أصلها للفكر الغربي الملحد والمنكر للغيب الذي اجتاح عقولنا وغير مفاهيمنا ونحن لا ندري به
هذا الطغيان الفكري الغربي الذي وجد مطيته إلينا عن طريق سبل الإعلام والتعليم غير معايير القياس عند الكثير من المسلمين. فنجد الآن الشباب المثقف المتابع لكتابات المفكرين والفلاسفة في الغرب يأخذ بنهجهم في النظر إلى كل شيء وهو الذي بطبيعته ينزل العقل منزلة الألوهية من حيث أنه إذا ما وجد أحدهم أمرا في أي شيء لم يستطع فهمه يرده وينكره ويعتبره من التراهات. المفارقة العجيبة في ذلك أن أغلب الشباب المثقف مع ذكائه واستعيابه لما يقرأ فإنه لا يخلو منهم أحد إلا وتفوت عليه أمور كثيرة في ما يقرأ ولا يفهمها ومع ذلك فإنه يتقبل كل ما يقوله المفكر الغربي ولا يرد من كلامه شيئا. قد يعود هذا إلى انبهار بما وصل إليه الغرب من تقدم وازدهار مادي محسوس فيظن القارئ المسلم أنه بالرغم من الأمور التي لا يعيها من كتبهم فإنه حري عليه أن يتقبلها برمتها لأن فيها مفتاح النجاح
مع أن طريقة التفكير عند الشباب المثقف أصبح يغلب عليها ما استوردوه من الغرب، فإنهم باستثناء القليل منهم الذين بدأوا يشكون في دينهم ويخرجون بالإلحاد نرى أغلبهم والحمدلله ما زالوا مسلمون. ولكن ما أشكل عليهم الآن هو الصراع الفكري في داخلهم الذي يختلط فيه التفكير الغربي الملحد المنكر لما وراء الطبيعة والفطرة الإسلامية التي ولدوا وتربوا في بيئة حاولت أن تنميها. لذلك نجد الكثير منهم يجد صعوبة في تقبل أمور الدين الفقهية ويسعى إلى فهمها بمنهجية غربية خاطئة وهو يظن أنها صحيحة. من هنا يزداد الإلحاح منهم على الفقهاء والأصوليين لإيراد اجتهادات جديدة لمواكبة مسيرة العصر وهنا تكمن الخطورة
بالطبع نحن نعلم بديهة أن الأمور اختلفت منذ عصر الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم. الكثير من أمور الحياة قد تغيرت عبر امتداد القرون الماضية مما اقتضى الأئمة والعلماء أن يأتوا باجتهادات جديدة في عصورهم. ولكن إذا ما بحثنا لنرى من كان هم المجددون في كل قرن لوجدنا اختلافا بين العلماء باستثناء القرن الخامس الهجري، فهو القرن الذي سمي فيه الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله بمجدده وانفرد به بلا منازع على ما نعلم. ضف إلى ذلك أنه عند أهل السنة كان هو الإمام الوحيد الذي أخذ لقب “حجة الإسلام” في حين أن الألقاب الأخرى مثل “شيخ الإسلام” لقب بها أكثر من إمام واحد. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما الذي كان في القرن الخامس الهجري الذي تصدى له الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله وأناله بذلك هذه المكانة بين علماء الإسلام؟
كان المسلمون يعيشون حالة صراع فكري وعقائدي في عصر الإمام أبو حامد الغزالي، فمن جهة كانت فرق الباطنية ومعتقداتهم المخالفة لما جاءت به رسالة الإسلام، ومن جهة أخرى كان هناك المسلمون الذين انبهروا بالفلاسفة اليونان وأقوالهم التي توجب الخروج من الملة، وإن كان هذا لا يكفي فكان هناك أيضا المتكلمون وحججهم التي توقع غير المتمكن منها في متاهات وكل من هؤلاء يدعي أنه على الحق. كل ذلك زاد في المسلمين اختلافا وانشقاقا كاد أن يصدع بالأمة مما جعل الإمام الغزالي ينظر في كيفية درء تلك الفتنة الفكرية التي أخذت بالأمة. كانت في زمنه بعض المحاولات من علماء أهل السنة في الرد على أقوال بعض الفرق ولكنها كانت ضعيفة وأدت إلى تقوية شوكة تلك الفرق، فعلى سبيل المثال وجد الإمام الغزالي أن الردود على الباطنية بالتحديد – وهم الذين كان فكرهم قد ساد حينئذ – كانت ردودا واهية تدل على عدم الإلمام بأقوالهم وعدم فهم حججهم مما جعل شوكتهم تزداد قوة. لذلك قام الإمام الغزالي أولا بدراسة مذهبهم دراسة عميقة وقام بإيراد ما يقومون عليه وكأنه واحد منهم وذهب به الأمر إلى أن يطرح حجج تقوي مذهبهم مما جعل علماء أهل السنة ينكرون عليه ذلك لأنه كان يأتي بحجج لم تخطر حتى في بال الباطنية، فكان رد الإمام الغزالي على هذه الانتقادات أنه كان لابد منه فعل ذلك ليثبت للجميع مدى تمكنه من مذهب الباطنية قبل أن يدحضه بالحق من قواعده. هذا أيضا ما فعله مع الفلاسفة إذ أنه كتب “مقاصد الفلاسفة” ثم تبعه بكتاب “تهافت الفلاسفة” ليهدم به مذهبهم هدما لا تقوم بعده قائمة
بعد تصحيح العقيدة وإعادة المسلمين إلى طريق الصواب أتى التأثير الحقيقي لكتابه “إحياء علوم الدين” والذي ما هو إلا ترجمة لمنهج حياة يقودها الكتاب والسنة. من هنا نرى أن التجديد في عصرنا الحالي سيأتي في مرحلتين: الأولى أن يكون هناك تصحيح للمفاهيم والعقائد لا من ناحية نظرية فقط بل من ناحية منهجية أيضا. أنظر في السيرة وسترى أهمية ذلك عندما ترى أن المرحلة المكية أخذت ثلاثة عشر سنة وأغلبها كان تصحيحا في العقائد. المرحلة الثانية ستتكون من قسمين: الأول هو إحياء لعلوم الدين وما اندرس من قبل، والثاني هو تجديد الاجتهادات الفقهية والأصولية لمواجهة الأمور المستجدة في عصرنا الحالي. إذا لم تتم المرحلة الأولى وقفزنا إلى الثانية مباشرة سنجد أنفسنا نتخبط في أمور ديننا بسبب خلل في طريقة التفكير النابعة من الأخذ مما يقوله الملاحدة من الغرب، فإن التجديد الحقيقي لن يكون إلا بعد التمكن من الفلسفة الغربية الملحدة وتفكيك نظرياتها ثم وضع الردود المفحمة عليها لإصلاح توجه جيلنا. حينما تنعدل المفاهيم العقلية والنظرة الكلية لوظيفة الإنسان في الكون كخليفة الله في الأرض سيكون بعدها التجديد الفقهي سليما وغير مشوش بالنفس والهوى، بل إنه سيكون منضبطا عقليا وفكريا و سنجد أنه لن يكون شاملا الشمول الذي ينادي به البعض الآن وسيكون حال المسلمين أمام شريعتهم حينئذ شبيها بحال الصحابة الذين كانت قلوبهم سليمة حينما نزلت آيات تحريم شرب الخمر فما جادلوا الأمر وما أتوا بتنظير من عند أنفسهم “ليقتنعوا” بأمر الله جل في علاه
نسأل الله سلامة الصدور وزيادة اليقين به وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا وأن يرنا الأمور كما هي