سألني أحد الطلاب الذين أشرف عليهم في الجامعة: ألا تجد تعارضا بين إيمانك بوجود الله وكونك باحثا في علم المخ؟
هذا السؤال كثيرا ما يطرح علي من قبل الشباب المسلم وغير المسلم وإجابتي كثيرا ما تدهشهم. حقا أجد تعارضا بين إيماني بالله وكوني باحثا في علم المخ، ولكن ليس تعارضا بين الإيمان وعلم المخ. التعارض الذي أعاني منه هو بين كوني باحث في هذا العلم مؤمن بالله، ومن ينتمون إلى هذا المجال العلمي. كثيرا ما أسمع من الزملاء والمشرفين تعليقات تهكم على الإيمان أو على الإسلام والقرآن، وعادة لا أرد على أحد وأمضي في سبيلى متظاهرا بعدم سماعي أو فهمي لما يقولون
الحقيقة في الأمر أن التعارض ليس بين الإيمان بوجود الله والبحث العلمي. التعارض الحقيقي هو بين الإيمان بعدم وجود الله، أي الإلحاد، والبحث العلمي. هذه العبارة هي ما قلتها لهذا الطالب كما قلتها قبل ذلك لمشرف الدكتوراة المسؤول عني شخصيا، فقد كان من عادته كلما رآني أن يقحم مسألة الإيمان بالله والقرآن في حديثه بمناسبة وغير مناسبة ليسخر بطريقة خفية أو جلية مما يدعي أنه إغلاق للعقل وقصور في التفكير
قبل شهور مضت جمع المشرف بيننا طلاب الدكتوراه لنناقش آخر نتائج البحوث التي كنا نجريها. كعادته أسقط بعض تعليقاته الساخرة وهذه المرة ذكر القرآن ليضرب المثل لإيضاح ما يقصد. بعد الاجتماع ذهبت إلى مكتبه وقلت: قد وجب علينا الحديث بصراحة الآن. في البداية ذهل من الجرأة التي لم يتعودها من أحد، ولكنه رحب بها وسأل عن ماذا أريد التحدث عنه
قلت: من خبرتي الشخصية وجدت أننا نعيش في زمن لا يفقه فيه كثير من المسلمون دينهم وإسلامهم للأسف لا يتعدى أن يكون دين ورثوه عن الآباء والأجداد. فإذا كان المسلمون لا يفقهون دينهم، فبالأحرى ألا نتوقع ممن لا يدينون بالإسلام أن يكون لهم علم بهذا الدين. لذلك رأيت أن تعليقاتك على القرآن والإسلام لا يمكن أن يكون مصدرها إلا عن الجهل بهما وبالتالي أتيت إليك الآن لأعلمك عن نظرتي كمسلم مؤمن بالله للعلوم التجريبية. هل تسمح لي بذلك؟
قال مبتسما: نعم تفضل
قلت: نظرا أنك ولدت ونشأت وتعلمت هنا في الغرب، فإن فهمك لكلمة “دين” تعني النصرانية ولا تعني الدين بمعناه الشمولي. كذلك فهمك لما يسمى وحيا، فأنت تراه من منظور الإنجيل الذي في الحقيقة لا يراه أغلبكم وحيا حقيقيا، بل إلهاما من الله لمن دونوه القساوسة القدامى ولكم أن تأخذوا منه ما تشاؤون وتتركوا ما تشاؤون وتفسروه كما يحلو لكم. ثم أنك ترى الأصوليين من النصارى والذين يدعون أن الإنجيل هو بالفعل كلام الله حقيقة وأنه يجب الأخذ بظاهره كما هو، أنهم مجانين إن صح التعبير فهم الأقلية السذج من النصارى الذين يرفضون العلم الحديث ويجسدون اليوم مأساة جاليليو حينما حاكمته الكنيسة وأرغمته على العدول عن قول أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس كما كان قول الكنيسة. فأنت ترى أن إيماني بحرفية الوحي والقرآن هو النموذج الإسلامي لما تراه أنت عند الأصوليين النصارى
أولا، الذي لا يؤمن بالله، ويؤمن بالصدفة البحتة هو الذي يقتل العلم في مهده. العلم التجريبي مبني على فرضية النظام في الكون، وأن الأحداث لها تسلسل منطقي، وأنه لا يوجد شيء اسمه صدفة. فالصدفة هي حدوث الشيء فجأة بلا أن يكون هذا الحدوث مترتبا على ما حدث قبله. الصدفة أيضا تعني عدم المقدرة على توقع حدوث هذا الشيء أو توقع صفات هذا الحدوث وما سيأتي بعده. لا يمكن لأي باحث في العلم التجريبي أن يستمر في بحثه إن كان حقا يؤمن بهذا. إنه الإيمان بوجود النظام في الكون الذي في الحقيقة يسمح بتقدم العلم التجريبي
قال: أنت محق في ذلك فإنه يبدو وكأن كل اكتشاف جديد يقودنا إلى اكتشاف آخر
قلت: نعم هو كذلك. زد على ذلك أني أرى كما يخبرني الله في القرآن أنه ليس هناك عبث في الكون. فإذا وجدت نتيجة غير متوقعة في أحد التجارب، سأكون أنا أول من يتسائل عن السبب وراء ذلك مقابل الملحد الذي يدعي الصدف ويتجاهل هذه النتائج غير المتوقعة إلا إذا ألحت عليه بالظهور مرة بعد الأخرى
أما بخصوص إيماني بالقرآن وأنه وحي منزل، فهذا لا يعني أن أقف عليه ولا أبحث بالتجربة عن ماهية سير هذا الكون. لا يوجد شيء في الإسلام يقول أن القرآن هو كتاب للعلوم التجريبية. بالعكس، لدينا ما يثبت غير ذلك، فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم أتوه مرة ليسألوه عن الأهلة وكان سؤالهم عن هذه الظاهرة كي يشرحها لهم. جاءهم الرد ليصرف نظرهم إلى غاية هذه الظاهرة فقال تعالى: (يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج). أتى هذا الرد لكي لا يزرع في أنفسهم الاتكال على الوحي لشرح الظواهر الطبيعية وترك ذلك لهم ليبحثوه ويكتشفوه في تاريخ البشرية. نعم، يوجد في القرآن ما يذهل العقل من الناحية العلمية، ولكن هذه الآيات لم يتجلى إعجازها العلمي إلا بعد أن استقرت الاكتشافات العلمية وأكدت تماما والإعجاز العلمي في القرآن مستند على الصيغة والبلاغة اللغوية في ذكر هذه الظواهر
قال: حسنا، ما قولك في نظرية التطور والارتقاء وتعارض هذا مع خلق آدم؟
قلت: هذا السؤال عادة ما يكون بصيغة (هل تؤمن بنظرة التطور والارتقاء) وإجابتي أن الإيمان بالشيء معناه الاعتقاد الديني به وهذا لا يصح أن يكون موقف الباحث في العلم التجريبي. إذا سألتني هل أقبل ما توصل إليه العلم الحديث من نتائج التجارب فسأقول بالطبع أقبله. ولكن أن أؤمن به فهذا سيعني توقفي عن الشك في ما وصلت إليه هذه التجارب والاعتقاد به والشك في حقيقة ما توصلنا إليه هو ما يدعونا إلى البحث فيه. ثم أن هذه النظرية ليست علمية فقط، فهي أخذت بعدا فلسفيا ودينيا عند كثير من الناس وعندما تسألني عنها الآن فأنت لا تسأل عن تقبلي لها من البعد العلمي فحسب وهو الإطار الذي لن نختلف عليه كعلماء في هذا المجال من ناحية التجارب البحتة. أما فلسفيا وعقائديا فهذه النظرية متهافتة بشهادة ليس المؤمنين فقط، بل الكثير من الملاحدة أيضا. لذلك أجد نفسي أجيب على من يسألني عن نظرية التطور والارتقاء بالقبول والرد في آن واحد لأنها ليست مسألة يستطيع من تريث في الإجابة عنها أن يكون قاطعا بالبياض أو السواد
في هذه اللحظة اضطر المشرف إلى الذهاب ليلحق بموعد كان قد حدد مسبقا. ولكن منذ تلك المقابلة القصيرة ولم أسمع منه بعدها تعليقا ساخرا على إيماني بالله أو الإسلام. ما لفت انتباهي من هذا الحوار القصير هو كم مزجاة هي بضاعة الملحد أو اللا ديني الفكرية أو حتى الثقافية ولذلك يلجأ إلى السخرية، لكنه سرعان ما يخفض صوته إذا تعرض للهجوم في عكر داره فبأي حديث بعده يؤمنون؟