قال الدكتور طارق رمضان في كلمة ألقاها في أحد المؤتمرات جملة ما زالت تقارنني: “أخطر سجن هو الذي لا تستطيع أن ترى قضبانه”. نعيش اليوم في عصر يحير العقول. إذا تفكر أحدنا في المبادئ التي توصل إليها بعد تأمل ذاتي، سيجد أن ما يؤمن به إنما كان نتيجة التوارث. المسلم اليوم في أغلب الأحوال لا يستطيع أن يدعي أنه مسلم إلا لأنه ولد في بيت مسلم. كذلك المسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي وغيرهم من الأديان السماوية وغير السماوية. والكل يدعي أنه على حق مطلق وأنه الناجي والجميع في جهنم وبئس المصير والحمدلله أننا نحن فقط شعب الله المختار. لن يلبث من يتأمل في هذه المسألة قليلا إلا وأن يمر بأزمة فكرية: من الذي على حق إذا كنت أنا وغيري نشأنا في ظروف مماثلة والاختلاف الوحيد هو أنني نشأت على الإسلام وغيري نشأ على دين آخر. زد على ذلك من يكتشف أن الذي تعلم عن الأديان الأخرى تعلمها من منظور دينه هو وبالتالي لم يتعلم عنها بحيادية كما ظن
منذ بدأ تسجيل التاريخ البشري والإنسان يسأل أسئلته الوجودية ويورد لها ما يستطيع من إجابات كي يصل إلى ماهية الإنسان. في بعض الأحيان كانت هذه الإجابات تأتي من الكتب السماوية، وفي أخرى كانت تأتي من شتى أنواع الفلسفة. أغلب الناس اليوم لا يكترثون لهذه الأسئلة ظنا منهم أنه لا جدوى من “تضييع” الوقت فيها. ولكن شئنا أو أبينا، فإننا سنعيش ونتعايش بناءا على أجوبة محددة لهذه الأسئلة، فإما أن نأخذ القرار للبحث عن الأجوبة بأنفسنا، أو أن نعطى الأجوبة ونتشربها من الغير دون أن نكون مدركين لذلك الأمر. لذلك تحدث علماء المسلمين في هذا الأمر وأشهرهم هو الإمام أبو حامد الغزالي الذي تحدث عن محنته الفكرية في كتابه المنقذ من الضلال
هناك نقد شائع من الملاحدة اليوم ضد المؤمنين وهو أنهم لولا نشأتهم في بيت مؤمن لما كانوا ليؤمنوا بوجود الله، ويأخذوا من هذا مطية لدعوتهم أن هذا الإيمان لا قاعدة عقلية لصحته. بالطبع هذا خطأ منطقي فمن الممكن أن يكون الإيمان موروثا وصحيحا في آن واحد فالصحة لا علاقة لها بالتوريث. أن يبني المسلم عقيدته في الإسلام على الوراثة هذا شيء لم يقبله جمهور العلماء المسلمين ولذلك وجب على من بلغ سن التمييز أن يدرس العقيدة ويعقلها كي يفهم سبب إسلامه ولا يورثه فقط. لذلك نرى في المتون الفقهية التي تدرس إلى يومنا هذا لأطفال المسلمين مثل متن ابن عاشر يبدأ فيه بأحكام العقل كما يقول في: مقدمة لكتاب الاعتقاد معينة لقارئها على المراد
وحكمنا العقلي قضية بلا *** وقف على عادة أو وضع جلا
أقسام مقتضاه بالحصر تماز *** وهي الوجوب الاستحالة الجواز
فواجب لا يقبل النفي بحال *** وما أبى الثبوت عقلا المحال
وجائزا ما قابل الأمرين سم *** للضروري والنظري كل قسم
أول واجب على من كلفا *** ممكنا من نظر أن يعرفا
الله والرسل بالصفات *** مما عليه نصب الآيات
أن نرى المسلمين أهملوا تعليم أبنائهم هذه البديهيات في الدين وتركوا اعتقادهم يعول على الميراث فهذا أمر خطأ. ولكن ذلك التقصير لا يعني أن الإسلام فقد مصداقيته. كما أن هذا أيضا لا يعني أن كل من فكر ورأى أن الإسلام أو حتى الإيمان بوجود الله كانت اختلاقات بشرية أنه على صواب. الميزان ليس في التوريث أو التفكير في هذه المسألة. الميزان في طريقة التوصل إلى النتيجة النهائية أيا كانت هذه النتيجة: الإيمان أو الإلحاد. العجيب هنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). فها هنا الإسلام يقر أن هناك شيء يسمى الفطرة وأن هذه الفطرة يطغى عليها تعليم الأبوين وبالتالي يأتي دور التوريث. هذه الفطرة هي التي توصلت إليها الأبحاث الحديثة أننا كلنا نولد مؤمنين بوجود إله خالق لهذا الكون، وبذلك يكون الإلحاد هو اتخاذ قرار تماما عكس ما يميل إليه الإنسان خلقة
مع ذلك نرى الملحد يدعي أنه فكر في وجود الإله وبعد قراءاته “الكثيرة” وأبحاثه “المستفيضة” أنه وصل إلى أن الإيمان ليس إلا أسلوب البشر في معالجة الخوف من المجهول ويدعم إلحاده بأقوال المفكرين والعلماء الغربيين الذين يرون أنهم بالعلم التجريبي استطاعوا أن يصلوا إلى أن يكونوا شبه متيقنين على عدم وجود أي إله وأن هذا الكون أزلي وأن وجودنا صدفة بحتة وسنذهب إلى ما أتينا منه ولن نعود (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ومالهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) الجاثية ٢٤
ولكن هناك مفارقة عجيبة أتى بها هذا العصر الحديث الذي نعيشه وهي أن الملحد اليوم الذي ظن في نفسه أنه فكر وبحث في المسائل الإلهية ما هو إلا ضحية لنوع جديد من التوريث العقائدي. الكثير من الناس اليوم يظن أن الفضاء المفتوح سنح للجميع أن يبحثوا عن أي شيء ويتعرفوا عن كل شيء وأن زمن المنع والرقابة انتهى ونحن الآن في زمن الانفتاح العلمي. قد يكون هناك شيء من الحقيقة في ذلك ولكن ما لا يعلمه إلا القليل وغالبهم هم الذين يعملون في مجالات علوم الكمبيوتر والانترنت أن هناك ما يسمى “فقاعات الترشيح” وهي ما تحدث عنه إيلي باريسر في مؤتمر تيد لعام ٢٠١١
مما ذكره باريسر في عرضه أن مواقع البحث أمثال جوجل وياهو وبنج تعتمد على معادلات تحصل عليها عن طريق مراقبة أكثر من خمسين مؤشر يأخذوه من كل شخص يستعمل هذه المواقع. هذه المؤشرات كانت تستعمل في بداية أمرها للدعاية والتسويق، فعلى سبيل المثال إن كان الباحث امرأة في منتصف العمر فإنها ستجد دعايات لمنتجات تهم النساء في منتصف العمر. تطورت هذه الفكرة وزادت المؤشرات لتشمل كل شيء يمت لمن يستعمل مواقع البحث هذه مثل تاريخ الصفحات التي زارها، توجهاته السياسية بناءا على ما كان يقرأ، الكتب التي يحبها، البلد والمدينة التي يعيش فيها، طبيعة عمله، نوع الكمبيوتر الذي يستعلمه، إلخ. حينما سمي بالفضاء “المفتوح” لم تكن التسمية فقط للتسويق، بل كانت حقيقة تضرب كل خصوصية بعرض الحائط وتجعل من استعمل ويستعمل الانترت كالكتاب المفتوح. ولكن ما صلة ذلك بما يسمى بفقاعات الترشيح؟
هذه المعادلات المشتقة من نتائج المؤشرات المستمدة من كل باحث على الانترنت تعمل على إعادة نتائج بحث غير حيادية. إذا كان الباحث بطبعه متحفظا دينيا فإن كل نتائج البحث الأولية ستحتوي على صفحات تؤكد له قناعاته المتحفظة. إن كان متحررا فإنه سيجد نتائج البحث أيضا تؤكد له قناعاته المتحررة. كذلك الملحد والمؤمن، كل منهما سيجد نفسه أمام نتائج تدعم له قناعاته التي أتى بها من البداية والجميع يظن أنه يبحث بأمانة وحيادية تامة، في حين أن كل ما فعلت له الانترنت أنها أكدت قناعاته التي أتى بها وأعطته زيادة من الحجج التي يستطيع أن يدعم بها ما ظن أنه توصل إليه بعد بحثه. بالتالي أصبح الملحد اليوم مثله مثل المؤمن الذي ورث دينه عن آبائه ولكن ذاك ورث إلحاده عن مؤشرات الانترنت التي أعانت نفسه عليه
ما العمل إذن؟ هل من المستحيل أن نبحث عن الحق في أي مسألة حتى من خلال الفضاء المفتوح؟ ليس هذا الهدف من هذه المقالة. إذا كنت على يقظة من أمرك وأنت تبحث عن الحقيقة، وتنبهت إلى ما قد تكون منقادا إليه إن لم تكن واعيا إلى ذلك، ستستطيع أن تتفادى التوريث اللا شعوري. الأهم من ذلك، والمقصود من هذه النصيحة الأخيرة هم من في شك من أمرهم ودينهم، إعلم يا أخي أن ما من شبهة ضد الإيمان بالله إلا وقد أثيرت من قبل. قد تكون بعض المصطلحات اختلفت ولكن الجوهر ما زال كما هو. هذه الشبهات دحضها علماء الإسلام من قبل وما بقي علينا الآن إلا البحث عن إجاباتهم عليها. العلم الحديث لم يأتي بشيء جديد يقضي به على الدين أو الإيمان بالله. كل ما أتى به هو وسيلة مبتكرة في علوم الانترنت تجعل المرء يظن أنه يبحث عن الحقيقة في حين أنه لا يبحث إلا عما يدعم به ما قرره في نفسه مسبقا. وأخيرا، لا تجعل كل اعتمادك على ما تجده في الانترنت فوسائل الحصول على العلم متنوعة فلا تجعل بيضك كله في سلة واحدة