كنت أحاور أحد الإخوة في موضوع الدين وموجة الإلحاد الجديدة بين الشباب، وسألته: هل تعلم أي عالم ومفكر هو الأكثر تأثيرا في الغرب؟ أطرق قليلا وقال: لا أدري. قلت له: في سنة ٢٠٠٥ أجرت مجلة بروسبكت استطلاعا وكانت النتيجة تصدر نعوم شومسكي القائمة لتلك السنة. أتدري لم كان ذلك ولماذا يزال شومسكي من أكثر الشخصيات المفكرة والعلمية تأثيرا في الغرب؟ مرة أخرى أطرق قليلا وقال: لماذا؟ أجبته: لأن نعوم شومسكي يعد من أكثر الأسماء انتشارا بين الباحثين والمنظرين في الفلسفة والسياسة وعلوم المخ والأعصاب وله باع طويل في العطاء الفكري الذي ما يزال الناس يعتمدون عليه، ناهيك عن أنه مؤسس علم اللغات والألسنة الحديث وكذلك نشاطه السياسي وكفاحه لحماية حقوق الإنسان وتوعية شعبه الأمريكي لما تقوم به الحكومة الأمريكية من اضطهادات ضد شتى دول العالم
باختصار، نعوم شومسكي وأقرانه من العلماء والمفكرين في الغرب لا يحظون بالشهرة والتأثير بين الناس فقط لحصولهم على شهادات عليا ثم الاقتصار على الظهور في شاشات التلفزيون كما يحدث في بلاد العرب والمسلمين. وأزيدك من الشعر بيتا: الغربيون لا اهتمام لهم بالألقاب. ترى أحدهم يقدم نعوم شومسكي للناس بلا مقدمات طويلة أو ألقاب رنانة. إذا حدث وأطلقوا لقبا، فهو لا يتعدى بروفيسور أو دكتور. أما عندنا في بلاد العرب والمسلمين فحدث ولا حرج: الأستاذ الدكتور المهندس بدر الزمان شيخ الإسلام ضياء الدين فلان بن فلان! هذا الأسلوب له أثر سلبي على نظرة المستمع لمن يتحدث لأنه يوجد في نفسه نقص يوحي له أنه لا أهلية له أن يناقش ويعترض على ما يسمع إن كان له اعتراض
الإلحاد ليس قرارا نابعا من جلسة أو اثنتين من التفكير العميق. الإنسان كائن عقلي وعاطفي وهناك عوامل كثيرة يجب أن تجتمع قبل أن يترك أحدهم دينه ليدخل في دين آخر أو ليلحد مرة واحدة. أحد هذه العوامل التي يذكرها الشباب الملحد تعود إلى تعارض الدين مع العلم الحديث. هذا التعارض له احتمالان: إما أن يكون حقيقيا على أرض الواقع، أو أن يكون نسبيا ناتجا عن سوء فهم للدين أو للعلم أو للعلاقة بينهما
من أسوأ الظواهر في العالم الإسلامي، والتي قطعا أثرت تأثيرا سلبيا أكثر مما يظنه المسلمون هي ظاهرة ما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن. إن كانت المعجزة هي الأمر الخارق للعادة ويتحدى به، إذن ما القول في ما يدعيه النصارى من إعجاز علمي في الإنجيل؟ أو الهندوس الذين يدعون صراحة أن علماء الطبيعة في العصر الحديث أخذوا علومهم من كتب الهندوس المقدسة ولم يذكروا ذلك للناس مما يجعل وصفهم باللصوص أقرب من وصفهم بأنهم علماء؟
هذه الظاهرة لها كيان سرطاني في عقلية الأمة الإسلامية وبنيتها التحتية أهون من بيت العنكبوت. نجد الشخصيات الإسلامية البارزة تظهر على الشاشات بدعاوى عريضة عن اعترافات العلماء الغربيين أنهم مبهورون بما يسمى بالحقائق العلمية في القرآن ونجد لهم تسجيلات قديمة يؤكدون فيها ذلك. ما لا يدركه الكثيرون أن هؤلاء العلماء لهم تعقيبات ومقابلات كشفوا فيها أن كلامهم لعب فيه ونشر خارجا عن سياقه المعتبر، مما يوحي لمن يسمعه مغزى هم لم يقصدوه. حتى عالم الأجنات بروفيسور كيث مور الذي يدعي الكثير من الدعاة الإسلاميين أنه أسلم بعد أن رأى ما يقوله القرآن عن تطور الجنين في الرحم، نجد أنه ينفي إسلامه ويرفض أن يخوض في هذا الحديث مرة أخرى قائلا أن هذا من عمله في الماضي البعيد. ثم هب أنهم فعلا اعترفوا بانبهارهم، متى كان العلم التطبيقي هو المرجع الأعلى لإثبات أن القرآن هو فعلا من عند الله؟
هذه الظاهرة لإثبات أن القرآن هو فعلا كلام الله عن طريق العلم الحديث تسمى ابتذالا في الغرب (البوكالية) نسبة إلى موريس بوكاي الذي خط كتاب (القرآن والعلم الحديث) سنة ١٩٧٦ وهو كتاب يفتخر به كثير من المفكرين في العالم الإسلامي ولا يكترث له أحد في العالم العلمي في الغرب أو الشرق
ما لا يدركه الكثيرون من الدعاة الإسلاميين عن العلم الحديث أن له منهج واضح لإثبات أو نقض أي دعوى عن الطبيعة وهو أن تخضعها للتجربة العلمية. إذا أردت أن تنقض نظرية التطور الدارويني مثلا، عليك أن تأتي بنتائج لتجربة علمية يستطيع علماء الأحياء أن يكرروها مرة بعد الأخرى وتكون هذه النتائج مناقضة تماما لتوقعات نظرية التطور الدارويني. إن لم تستطع، فإنه لا سبيل لك إلا أن تقبل بها فهي إلى الآن موثقة بالتجارب العلمية وليست فلسفة فارغة أو سفسطة كما يدعي البعض. هذه هي جاذبية العلم الحديث وتكمن في كلمة: أرني أو اصمت
أنظر إلى الأسلوب القرأني في التعامل مع الظواهر التي قد يضل بسببها الناس. موسى عليه السلام ذهب إلى فرعون وكان قومه مبهورون بالسحرة. ماذا فعل حينما ألقوا عصيهم وحبالهم؟ هل حاول أن يقنع قوم فرعون أنهم مسحورون بالمنطق؟ كلا! بل ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى
إذا أردنا فعلا كمسلمين أن نواجه عنصر العلم الحديث في موجة الإلحاد المتزايدة بجدية، فعلينا أن نقلع عن تراهات الإعجاز العلمي في القرآن النابعة من محاولة لتغطية الشعور بالنقص تجاه الغرب وأن نكرس جهودنا في إنشاء مراكز أبحاث علمية بمعايير عالمية. الكثير من الشباب الذي اتجه نحو الإلحاد لا يمارس العلم التطبيقي ولا يفهم الكثير من تفاصيله الدقيقة حقيقة، ولكنه يرى أثره في الحياة وينبهر به. العلم الحديث عامل من عوامل التأثير على القرار لمن يشك في الإسلام، وكلما استفرد به الغرب ولم نمارسه نحن أهل الإسلام بجدارة، سيكون من الأسباب الرئيسية لخسارة المعركة الفكرية ضد الإلحاد وهو للأسف ما يحدث الآن