كثيرا ما يسأل الملحد أو المقبل على الإلحاد أسئلة يظن أنها منطقية في حين أنها إن دلت على شيء فإنها تدل على خلط بين الأمور وعدم انتباه إلى القواعد الواهية التي بنيت عليها هذه الأسئلة
من الأسئلة التي يكررها الملحد الغربي والتي للأسف أخذ بها الشاب العربي الشغوف بالقرائة والفلسفة الغربية الملحدة هو الاستفسار عن سبب خفاء الله وعدم ظهوره علانية لنا كي يزول الشك ويأتي اليقين القاطع بوجود خالق الخلق. بما أن الملحد يدعي المنطقية ويحب ضبط العبارات والتعاريف والتأكد من سلامة المفاهيم، دعونا نأخذ جولة سريعة مع هذا السؤال حول خفاء الله
ما معنى إبصار الشيء في الواقع؟ معناه أنك قد أدركته عينك وعرفت مقداره واحتوته عينك التي أرسلت صورته إلى مخك الذي حلل الصورة وفصلها واحتفظ بها في الذاكرة بعد عدة نبضات كهربائية بين الخلايا العصبية. النتيجة هي أنك أحطت بأبعاد هذا الشيء واستطعت تقديره بقوة بصرك وفي هذا نوع من تسخيره تحت قوتك البصرية التي تأخذ الصورة إلى ذهنك الذي يستطيع بقوته أن يصرف هذه الصورة كيف يشاء، وفي ذلك درجة ثانية من تسخير هذا الشيء الذي أبصرته
بعد التفكر لوهلة في طلب الملحد أن يرى الله، نجد أنه يظن في نفسه قدرة تفوق قدرة الله بما أنه بموجب هذا الطلب يكون هناك على الأقل درجتان من تسخير الإله لقوة البشر، مما يجعل المرء يتساءل: أي إله هذا الذي يخضع لقوة البشر؟
قد يقول الملحد أو المتشكك: ولكنكم يا معشر المسلمون تقولون أنكم ترون الله يوم القيامة وهذا من أعظم النعيم في الجنة، وقرآنكم يثبت ذلك في الآية (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة). فنرد عليك ونقول أن هذا دليل على عدم الإلمام منك باللغة العربية، فهناك علم اسمه “الفروق اللغوية” والذي لم يمارسه يجد نفسه واقعا في هذه المغالطات، وهاك توضيح ما التبس عليك
هناك فرق بين “البصر” و”النظر” في اللغة العربية، فالبصر يفيد الإدراك والإحاطة أما النظر فلا يفيد ذلك. دعنا نأخذ مثالا مر به كل منا فقط لتقريب المعنى. هل بحثت يوما عن مفاتيح سيارتك ولم تجدها حتى أشار إليك أحدهم أنها أمامك على الطاولة؟ هذا بالرغم من أنك تأكدت من عدم وجودها على الطاولة، أو كذلك ظننت من نفسك. ما حدث لك قبل أن يشار لك أن المفاتيح كانت على الطاولة هو ما يسمى بالنظرفإن عينك وقعت على المفاتيح ولكن لم يحدث لك الإدراك إلى أن أشيرت إليك وحدث عندها البصر حينما أدركت صورتها
القرآن الذي استشهدت به ينبه إلى الفرق بين البصر والنظر وأنهما يختلفان حينما يقول الله تعالى (وترىهم ينظرون إليك وهم لايبصرون) في سورة الأعراف. الله أيضا يقول في محكم تنزيله (لا تدركه الأبصر وهو يدرك الأبصر) في سورة الأنعام. لذلك إذا أخذنا مجموع هذه الآيات وفهمنا الفرق بين استعمال الألفاظ العربية، لوجدنا أنه لا يوجد تناقض منطقي عندما يقول المسلم أن الله لا يحيط به شيء وفي نفس الوقت يراه أهل النعيم يوم الدين. بل إننا نجد دقة الكلمات في القرآن بعد فهم هذه الأمور، وانسجام عقائدي حينما لم يقل “مبصرة” في قوله تعالى (إلى ربها ناظرة) في سورة القيامة
الإشكالية عند الملحد أو المتشكك هي في تأثره بكتابات فلاسفة غربيين ألحدوا بعدما كفروا غالبا بالمسيحية التي تفرض على العقل تصور أن الله له صفات تشبه صفات البشر. مهما قال أهل العلم في الديانة المسيحية في تنزيه الإله فوق التصور والتشبيه، إلا أنهم لابد لهم وأن يدفعوا بعقولهم وعقول عوامهم إلى تصور الله بصورة البشر حينما يصفونه بأنه الأب وأنه الإبن أو أن له أم أو ولد أو ما إلى ذلك من الصفات التي أخبرنا الله في القرآن أنها كادت السماوات يتفطرن وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا بدعواها على الله
أخبرنا الله تعالى أنه (ليس كمثله شيء) وفي هذه الآية دمج بين أداتي تشبيه: “الكاف” وهي أداة لغوية تستعمل للتشبيه عن قرب، مع “مثل” وهي أداة تشبيه عن بعد. هذا ليصرف عقولنا عن أي تصور لذات الله ولذلك قال بعضهم: كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، وقال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه
عجزك عن إدراكه إدراك *** والخوض في كنه الإله إشراك
إذا ثبتت هذه القاعدة في العقل وقاس عليها الملحد أي سؤال عن الله قبل أن يطرحه، لوجد نفسه ملجما عن الطرح. حتى إن فكرنا فيها منطقيا، نجد أن الإله يجب له أن يكون فوق كل تصور وكل إحاطة من أي من المخلوقات وإلا فهو ليس بإله ولا يستحق أن يعبد إذا كانت قدرتي تفوق قدرته
قبل إنكار وجود الله بأسئلة غير صحيحة أو منضبطة، يجب أولا التفكر بطريقة منطقية وهذه لا تتأتى إلا بعد أن يدرس المرء علم المنطق المجرد من الوثنية كمادة دراسية، وثانيا السؤال والبحث عما قاله المسلمون قبل الوقوع في هفوات الفلاسفة الغربيين الذين ألحدوا لأسباب لا يمكن أن تنطبق على المسلمين. للأسف، الكثير من الشباب العرب لا يفقهون في دينهم أو عقيدتهم شيئا بسبب تركيزهم على أخذ العلوم من الغرب وتجاهلهم لتراثهم وتركتهم من العلم الذي خلفه علماؤنا المسلمون، وينجرفون وراء آراء غير منضبطة منطقيا أو فكريا ويظنون أن في ذلك تقدم وتحضر. ما لا يعلمونه أن علم المنطق الذي تبناه الغرب إنما هو جزء أخذوه من بحر المنطق الذي يمتلكه علماء المسلمين، والذي به رد المسلمون على كل هذه المغالطات التي كانت قد اندثرت وللأسف عادت مرة أخرى لتطغى على تفكير الشباب في أيامنا هذه
اللهم أرنا الأشياء كما هي وحبب شبابنا في دينهم وعلمائهم واجعلهم يقبلوا على ما تركه أسلافنا من العلوم الشريفة الكفيلة بإزالة الحيرة والتخبط الفكري